عرفتُ السيّاب أول مرة في مطلع تسعينات القرن الماضي؛ أي بعد نحو ثلاثين عاماً على رحيله، من خلال قصيدته "رحل النهار"، فمن حسن حظي أنها كانت مدرجةً ضمن منهاج اللغة العربية للصفوف الثانوية كنموذج لحركة الشعر الحرّ، وذلك بعد أن تفرّد نزار قباني بالحظوة الواحدية شعرياً آنذاك خارج أسوار المدرسة وتقاليد المجتمع والعائلة المحافظين، وظلت قصائده العمودية هي الأكثر تداولاً كالمنشورات السرية بين أبناء جيلي ممن يسبّحون باسمه وبشعره في سنّ المراهقة.
بدت "رحل النهار" أشبه ببيضة الدّيك، فقد حفظتُها عن ظهر قلب في فترة قياسية، ولا أزال أردّدها بين فينة وأخرى منذ ذلك الحين، بل وأمتحن نفسي بمدى حفظي لها كلّما عدتُ إلى ديوان "منزل الأقنان". كيف لا وقد كانت لحظة التعرّف والكشف تلك واحدةً من أجمل لحظات انفلاتي، مثل برق يضرب الذائقة الشعرية في أعمق جذورها، ويزعزع ثوابت الولاء المطلق لقداسة الشّكل العمودي في موروث الشعر العربي؟ كيف لا وقد غيرت القصيدة في نظرتي الفطرية إلى بنية الإيقاع وأساليب الكتابة السائدة التي اطّلعتُ عليها حتى ذلك الحين، وعلى رأسها قصيدة التفعيلة بما تحفل به من إيقاعٍ جديد، ومتخيّلات تشفُّ عن أجواء أسطورية وأقنعة ورموز لم يكن لي قبلٌ بها، بالقدر الذي أكَّدت "أنشودة المطر" بعدذاك على وجهتي وخياراتي الشعرية، وطريقة تناولي للشّعر قراءةً وكتابةً وذائقةً نقدية. أحسب أنّ ما أصابني إثر الارتطام بمنجز قصيدة النثر فيما تلا ذلك من وقت لم يكن بحجم وقوة ما خلّفته "رحل النهار" من تبعات وآثار.
ناهيك عن فضيلتها الدرامية، واحتشادها بأدوات الاستفهام والنداء والتّمنّي، فإنّ أكثر ما استهواني في "رحل النهار" هو استخدام السياب لحرف التنبيه "ها" في قوله "ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهّج دون نار". لم أنجذب فقط إلى المفعول الإيقاعي لهذه الـ "ها" التنبيهية، ولا باعتبارها أداةً تخلق جرساً ايقاعياً قلَّ مثيله، أو باعتبارها في أسوأ الأحوال مُتمّمةً تفعيلية لوزن السّطر الشعري، بل كنتُ أتمثلها جرس الإيقاع وصداه البعيد رغم تناهيها في الصّغر، ثمّ ما لبث ضوء وإيقاع تلك الـ "ها" أن خفت، بعد تفرّق دمها بين قصائد الشّعراء العرب؛ التفعيليين على وجه الخصوص.
البعض يذهب إلى أن تأثير السياب على راهن الشعر العربي والشعراء الشباب عموماً ليس بذي شأن كبير، إن لم تكن وتيرته آخذةً بالإنحسار بفعل وهم التقادم، والتسليم بأنّ قصيدة النثر أضحت صاحبة الهيمنة والحظوة وسلطة الحضور. ربما لم يعد السياب - الكلاسيكي بلغة هذا الوقت - مركز إلهامٍ وبوصلةً شعرية كالسابق، لكنه في كلّ الأحوال ضميرٌ شعريٌّ خالصٌ ومتأصلٌ في الحداثة العربية، ولا شكّ في أنَّ تجربته الإبداعية بكافة أبعادها رايةٌ مرفوعةٌ في مسيرة الشّعر المعاصر، حرّرت الشعرية العربية وقصيدة التفعيلة من أسر الرتابة وسكونيّة الشّكل، وظلّت فوق ذلك قادرة على السيرورة والتجلّي، بما تختزنه من شحنات غنيةٍ في جوهر بنيتها، وضمن محيط التجربة الإنسانية وآفاقها.
بعد اكتشاف السياب وتأصيلاته للقصيدة العربية، أجدني لا أزال منحازاً - بتطرّف ربما - إلى ريادته لحركة التجديد في الشعر العربي الحديث، عطفاً على مجمل منجزه الشعريّ خلال حياته القصيرة، في مقابل خفوت ترجيعات ما أنجزته نازك الملائكة، شريكته في الريادة، مقارنة به. وهو انحيازٌ تعزّز أكثرَ بانقلاب الملائكة وارتداها على هامشٍ لا بأس به من تجربتها، بما يمكن استشفافه من مقدمة ديوانها "شجرة القمر"، وتيقّنها كما تقول من "أن تيار الشعر الحر سيتوقف فى يوم غير بعيد وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية"، إلى جانب ما أشيع حول ارتدادها عن قصيدة التفعيلة بلا تأكيدات موثقة تماماً. هذا علاوة على ما أصاب قصائدها اللاحقة من وهنٍ فنّي، وابتعادٍ عن العفوية أخذ ينتشر كالعدوى في تلك القصائد التي حملت جزءاً من تنظيرات نازك بأثرٍ مباشرٍ من وعيها النّقدي، فأضحت القصيدة مختبراً وحقلاً للتجارب والتطبيقات، وهو الأمر الذي ما لبثت أن اكتشفَتهُ بنفسها ولمست انعاكاساته الحقيقية، فكان سبباً جوهرياً وراء ابتعادها عن كتابة الشعر أو انحساره، من دون أن ينقصها ذلك شيئاً من مكانتها وتأصيلها لحركة الشعر العربي الحديث.
ما يلفت الإنتباه في السنوات الأخيرة، أنّ التناولات والأطاريح التي ارتكزت في محاورها الرئيسية إلى تجربة السياب لم تعد تشتغل على الجوانب الفنية في قصائده، وكأنه استُنفد نقدياً، بينما الشعراء الحقيقيون عكس ذلك، إنما كان ديدنها تتبّع وتقصّي خفايا سيرته واكتناه أدقّ تفاصيلها، فراحت تنقّب في علائقيات وحيثيات أخرى أكثر اشتباكاً وارتباطاً بحياته الشخصية. لا ضير في إنارة الجوانب الظليلة الأخرى من شخصية السيّاب باعتباره إنساناً قبل كلّ شيء، يخطئ أحياناً ويصيب أخرى، وبالقدر الذي تلاقحت فيه وتقاطعت تلك الجوانب مع تجربته الشعرية، مثل مصادر قلقله وطبائعه الفردية وصراعاته الأيديولوجية وتقلباته السياسية. لكنّ ذلك لا يبرّر حقّ الاقتراب من العوالم السرية - إذا جاز التعبير - التي اعتورت أدقّ مفاصل حياته الخاصة، وآثر أن يحتفظ بأسرارها لنفسه كما حصل مع سواها من الأسرار والخفايا التي أثارت الكثير من اللغط بعد افتضاحها، كالتناقضات التي شابت انتماءاته السياسية، وعلاقاته الغرامية التي كانت في أغلبها من طرفٍ واحد، فضلاً عن بعض الهنات والسقطات في حياته الشخصية. لعلّ هكذا تناولات لم تكن لتظهر لولا ما رواه بعض مجايليه عن علاقتهم به، وما عُثر عليه لدى أصدقاء السياب من أوراق ومذكرات ومراسلات، إضافة الى ما خلّفهُ هو نفسه وآثر عدم الإفراج عنه أثناء حياته القصيرة.
بالمحصّلة، هذا هو "سيّابي" الذي رحل في الخامس والعشرين من كانون الأول 1964 وهو في أوج عطائه مثلما "رحل النّهار"، إنما ظلّ "النورُ في نفسه يتيه" على حدّ تعبير أوكتافيو باث، وظلَّ هو نفسه متجدّد الحضور ضمن ديمومة شعره الذي كان أكبر مرايا حياته، وكم ضبطتُ نفسي متلبّساً باستذكاره، والإنتشاء بترديد مقاطع بين حين وآخر من قصائده التي ما زالت تمسّ عصباً خفيّاً في الروح كنهارٍ لا يرحل، على رغم أنَّ مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر، قبل أن أسارع إلى ندبه إثر كلّ استذكارٍ بمثل ما ندب نفسه السّندبادية في "رحل النهار": ...هو لن يعود.